فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



تنبيه:
في رفع علام أوجه:
أظهرها: أنه خبر ثان لأن، أو خبر مبتدأ مضمر، أو بدل من الضمير في يقذف وقال الزمخشري: رفع محمول على محل أن واسمها أو على المستكن في يقذف يعني بقوله محمول على محل إن واسمها النعت إلا أن ذلك ليس مذهب البصريين لأنهم لم يعتبروا المحل إلا في العطف بالحرف بشروط عند بعضهم، ويريد بالحمل على الضمير في يقذف أنه بدل منه لا أنه نعت له لأن ذلك انفرد به الكسائي، وقرأ حمزة وشعبة بكسر الغين والباقون بالضم.
{قل} لهؤلاء {جاء الحق} أي: الإسلام وقيل: القرآن وقيل: كل ما ظهر على لسان النبي صلى الله عليه وسلم وقيل: المعجزات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: المراد من جاء الحق أي: ظهر الحق لأن كل ما جاء فقد ظهر وأكد تكذيبًا لهم في ظنهم أنهم يغلبون بقوله تعالى: {وما} أي: والحال أنه ما {يبدئ الباطل} أي: الذي أنتم عليه من الكفر {وما يعيد} أي: ذهب فلم تبق منه بقية مأخوذ من هلاك الحي فإنه إذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة فجعلوا قولهم لا يبدئ ولا يعيد مثلًا في الهلاك ومنه قول عبيد:
أقفر من أهيله عبيد ** أصبح لا يبدي ولا يعيد

والمعنى: جاء الحق وهلك الباطل كقوله تعالى: {جاء الحق وزهق الباطل}.
وعن ابن مسعود: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ثلثمائة وستون صنمًا فجعل يطعنها بعود ويقول {جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا} {جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد}.
وقيل: الباطل إبليس أي: ما ينشيء خلقًا ولا يعيده، والمنشيء والباعث هو الله تعالى، وعن الحسن لا يبدئ لأهله خيرًا ولا يعيده أي: لا ينفعهم في الدنيا والآخرة وقال الزجاج: أي: شيء ينشئه إبليس ويعيده فجعله للاستفهام وقيل: للشيطان الباطل لأنه صاحب الباطل، ولأنه هالك كما قيل له الشيطان من شاط إذا هلك وحينئذ يكون غير منصرف وإن جعلته من شطن كان منصرفًا.
ولما لم يبق بعد هذا إلا أن يقولوا عنادًا أنت ضال ليس بك جنون ولا كذب، ولكنك قد عرض لك ما أضلك عن الجمعة قال تعالى: {قل} أي: لهؤلاء المعاندين على سبيل الاستعطاف بما في قولك من الإنصاف وتعليم الأدب {إن ضللت} أي: عن الطريق على سبيل الفرض {فإنما أضل على نفسي} أي: إثم إضلالي عليها {وإن اهتديت فبما} أي: فاهتدائي إنما هو بما {يوحى إلي ربي} أي: المحسن إلي من القرآن والحكمة لا بغيره فلا يكون فيه ضلال لأنه لاحظ للنفس فيه أصلًا، فإن قيل: أين التقابل بين قوله تعالى: {فإنما أضل على نفسي} وقوله تعالى: {فيما يوحي إلى ربي} وإنما كان يقال: فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فإنما اهتدى لها كقوله تعالى: {من عمل صالحًا فلنفسه ومن أساء فعليها} وقوله تعالى: {فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها}.
أو يقال فإنما أضل نفسي أجيب: بأنهما متقابلان من جهة المعنى لأن النفس كل ما عليها فهو بسببها لأنها الأمارة بالسوء وما لها مما ينفعها فبهداية ربه وتوفيقه وهذا حكم عام لكل مكلف، وإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسنده إلى نفسه لأن الرسول إذا دخل تحته مع جلاله محله وسداد طريقه كان غيره أولى به، وفتح الياء من ربي عند الوصل نافع وأبو عمرو الباقون بالسكون وهم على مراتبهم في المد، ثم علل الضلال والهداية بقوله تعالى: {إنه} أي: ربي {سميع} أي: لكل ما يقال: {قريب} أي: يدرك قول كل ضال ومهتد وفعله وإن أخفاه.
ولما أبطل تعالى شبههم وختم من صفاته بما يقتضي البطش بمن خالفه عطف على {ولو ترى إذ الظالمون}.
{ولو ترى} أي: تبصر يا أشرف الخلق {إذ فزعوا} أي: عند الموت أو البعث أو يوم بدر، وجواب لو محذوف نحو: لرأيت أمرًا عظيمًا {فلا} أي: فتسبب عن ذلك الفزع أنه لا {فوت} أي: لهم منا لأنهم في قبضتنا، ثم حقر أمرهم بالبناء للمفعول بقوله تعالى: {وأخذوا} أي: عند الفزع من كل من نأمره بأخذهم سواء أكان قبل الموت أم بعده {من مكان قريب} أي: القبور أو من الموقف إلى النار، أو من صحراء بدر إلى القليب وقال الكلبي: من تحت أقدامهم، وقيل: أخذوا من ظهر الأرض إلى بطنها وحيثما كانوا فهم من الله تعالى قريب لا يفوتونه، والعطف على فزعوا أو لا فوت.
{وقالوا} أي: عند الأخذ ومعاينة الثواب والعقاب {آمنا به} أي: القرآن الذي قالوا: إنه أفك مفترى أو محمد صلى الله عليه وسلم الذي قالوا: إنه ساحر {وأنى} أي: وكيف ومن أين {لهم التناوش} أي: تناول الإيمان تناولًا سهلًا {من مكان بعيد} أي: عن محله إذ هم في الآخرة ومحله في الدنيا، ولا يمكن إلا برجوعهم إلى الدنيا التي هي دار العمل وهذا تمثيل لحالهم في طلبهم أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت كما ينفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا بحال من أراد أن يتناول شيئًا من علوه كما يتناوله الآخر من قدر ذراع تناولًا سهلًا لا تعب فيه، فإن قيل: كيف قال تعالى: {من مكان بعيد} وقد قال تعالى في كثير من المواضع أن الآخرة من الدنيا قريب، وسمى الله تعالى الساعة قريبة فقال: {اقتربت الساعة} {اقترب للناس حسابهم} {لعل الساعة قريب}.
أجيب: بأن الماضي كالأمس الدابر وهو من أبعد ما يكون إذ لا وصول إليه، والمستقبل وإن كان بينه وبين الحاضر سنون فإنه آت فيوم القيامة الدنيا بعيدة منه لمضيها، ويوم القيامة في الدنيا قريب لإتيانه، وقرأ أبو عمرو وأبو بكر وحمزة والكسائي بعد الألف بهمزة مضمومة والباقون بعد الألف بواو مضمومة فمعناه على هذا: كيف لهم تناول ما بعد عنهم وهو الإيمان والتوبة وقد كان قريبًا في الدنيا فضيعوه، وأما من همز فقيل معناه هذا أيضًا.
وقيل: التناؤش بالهمز من التنؤش الذي هو حركة في إبطاء يقال: جاء منئشًا أي: مبطئًا متأخرًا والمعنى: من أين لهم الحركة فيما لا حيلة لهم فيه قال ابن عباس: يسألون الرد فيقال: وأنى لهم الرد إلى الدنيا من مكان بعيد أي: من الآخرة إلى الدنيا وأمال أنى محضة حمزة والكسائي، وأبو عمرو بين بين وورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح.
{وقد} أي: كيف لهم ذلك والحال أنهم قد {كفروا به} أي: بالذي طلب منهم أن يؤمنوا به محمد صلى الله عليه وسلم أو القرآن أو البعث {من قبل} أي: في دار العمل {و} الحال أنهم حال كفرهم {يقذفون} أي: يرمون {بالغيب} ويتكلمون بما يظهر لهم في الرسول صلى الله عليه وسلم من المطاعن وهو قولهم: ساحر وشاعر وكاهن، وفي القرآن سحر شعر كهانة وقال قتادة: يعني يرجمون بالظن يقولون لا بعث ولا جنة ولا نار {من مكان بعيد} أي: ما غاب علمه عنهم غيبة بعيدة وهذا تمثيل لحالهم في ذلك بحال من يرمي شيئًا ولا يراه من مكان بعيد لا مجال للظن في لحوقه.
{وحيل بينهم وبين ما يشتهون} أي: من نفع الإيمان يومئذ والنجاة من النار والفوز بالجنة، أو من الرد إلى الدنيا كما حكى عنهم {أرجعنا نعمل صالحًا} وقرأ ابن عامر والكسائي بضم الحاء وهو المسمى بالإشمام والباقون بكسرها {كما فعل} أي: بأيسر وجه {بأشياعهم} أي: أشباهم من كفرة الأمم ومن كان مذهبه مذهبهم {من قبل} أي: قبل زمانهم فإن حالهم كان كحالهم، ولم يختل أمرنا في أمة من الأمم بل كان كلما كذب أمة رسولها أخذناها فإذا أذقناهم بأسنا أذعنوا وخضعوا فلم يقبل منهم ذلك ولا نفعهم شيئًا لا بالكف عن إهلاكهم ولا لإدراكهم شيئًا من الخير بعد إهلاكهم {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}.
ثم علل عدم الوصول إلى قصدهم بقوله تعالى مؤكدًا لإنكارهم أن يكون عندهم شيء من شك في شيء من أمرهم {إنهم كانوا} أي: في دار القبول {في شك} أي: في جميع ما تخبرهم به رسلنا عنا من الجزاء والبعث وغير ذلك {مريب} أي: موقع في الريبة فهو بليغ في بابه كما يقال: عجب عجيب أو هو واقع في الريب كما يقال: شعر شاعر أي: ذو شعر فهو اسم فاعل من أراب أي: أتى بالريب أو دخل فيه أي: أوقعته في الريب، ونسبة الإرابة إلى الشك مجاز قال الزمخشري: إلا أن بينهما فرقًا وهو أن المريب من المتعدي منقول ممن يصح أن يكون مريبًا من الأعيان إلى المعني، ومن اللازم منقول من صاحب الشك إلى الشك كما تقول شعر شاعر انتهى، وقول البيضاوي تبعًا للزمخشري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة سبأ لم يبق نبي ولا رسول إلا كان له يوم القيامة رفيقًا ومصافحًا» حديث موضوع. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤكُمْ}.
ثم ذكر سبحانه نوعًا آخر من أنواع كفرهم، فقال: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا} أي: الآيات القرآنية حال كونها {بينات} واضحات الدلالات ظاهرات المعاني {قَالُواْ مَا هذا} يعنون: التالي لها، وهو النبي {إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤكُم} أي: أسلافكم من الأصنام التي كانوا يعبدونها {وَقَالُواْ} ثانيًا {مَا هذا} يعنون: القرآن الكريم {إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى} أي: كذب مختلق {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ} ثالثًا {لِلْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ} أي: لأمر الدين الذي جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم {إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} وهذا الإنكار منهم خاص بالتوحيد، وأما إنكار القرآن، والمعجزة، فكان متفقًا عليه بين أهل الكتاب، والمشركين.
وقيل: أريد بالأوّل، وهو قولهم: {إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى} معناه، وبالثاني، وهو قولهم: {إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} نظمه المعجز.
وقيل: إن طائفة منهم قالوا: إنه إفك، وطائفة قالوا: إنه سحر.
وقيل: إنهم جميعًا قالوا: تارة إنه إفك، وتارة إنه سحر، والأوّل أولى.
{وَمَا ءاتيناهم مّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا} أي: ما أنزلنا على العرب كتبًا سماوية يدرسون فيها {وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مّن نَّذِيرٍ} يدعوهم إلى الحقّ، وينذرهم بالعذاب، فليس لتكذيبهم بالقرآن وبالرسول وجه، ولا شبهة يتشبثون بها.
قال قتادة: ما أنزل الله على العرب كتابًا قبل القرآن، ولا بعث إليهم نبيًا قبل محمد صلى الله عليه وسلم.
قال الفرّاء، أي: من أين كذبوك، ولم يأتهم كتاب، ولا نذير بهذا الذي فعلوه.
ثم خوّفهم سبحانه، وأخبر عن عاقبتهم، وعاقبة من كان قبلهم، فقال: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ} من القرون الخالية {وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَا ءاتيناهم} أي: ما بلغ أهل مكة من مشركي قريش، وغيرهم من العرب عشر ما آتينا من قبلهم من القوّة، وكثرة المال، وطول العمر، فأهلكهم الله، كعاد، وثمود، وأمثالهم.
والمعشار: هو: العشر.
قال الجوهري: معشار الشيء عشره.
وقيل المعشار: عشر العشر، والأوّل أولى.
وقيل: إن المعنى: ما بلغ من قبلهم معشار ما آتينا هؤلاء من البينات والهدى.
وقيل: ما بلغ من قبلهم معشار شكر ما أعطيناهم.
وقيل: ما أعطى الله من قبلهم معشار ما أعطاهم من العلم، والبيان، والحجة، والبرهان، والأوّل أولى.
وقيل: المعشار عشر العشير، والعشير عشر العشر، فيكون جزءًا من ألف جزء.
قال الماوردي: وهو الأظهر؛ لأن المراد به المبالغة في التقليل، قلت: مراعاة المبالغة في التقليل لا يسوغ لأجلها الخروج عن المعنى العربي، وقوله: {فَكَذَّبُواْ رُسُلِى} عطف على {كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} على طريقة التفسير، كقوله: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا} [القمر: 9] الآية، والأولى أن: يكون من عطف الخاص على العام، لأن التكذيب الأول لما حذف منه المتعلق للتكذيب أفاد العموم، فمعناه: كذبوا الكتب المنزلة، والرسل المرسلة، والمعجزات الواضحة، وتكذيب الرسل أخص منه، وإن كان مستلزمًا له، فقد روعيت الدلالة اللفظية لا الدلالة الالتزامية {فَكَيْفَ كَانَ} أي: فكيف كان إنكاري لهم بالعذاب، والعقوبة، فليحذر هؤلاء من مثل ذلك.
قيل: وفي الكلام حذف.
والتقدير: فأهلكناهم، فكيف كان نكير، والنكير اسم بمعنى: الإنكار.
ثم أمر سبحانه رسوله: أن يقيم عليهم حجة ينقطعون عندها، فقال: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بواحدة} أي: أحذركم، وأنذركم سوء عاقبة ما أنتم فيه، وأوصيكم بخصلة واحدة، وهي: {أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى} هذا تفسير للخصلة الواحدة، أو بدل منها، أي: هي قيامكم وتشميركم في طلب الحقّ بالفكرة الصادقة متفرقين اثنين اثنين، وواحدًا واحدًا، لأن الاجتماع يشوّش الفكر.
وليس المراد القيام على الرجلين، بل المراد القيام بطلب الحقّ، وإصداق الفكر فيه، كما يقال: قام فلان بأمر كذا {ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ} في أمر النبيّ، وما جاء به من الكتاب، فإنكم عند ذلك تعلمون أن {مَا بصاحبكم مّن جِنَّةٍ} وذلك؛ لأنهم كانوا يقولون: إن محمدًا مجنون، فقال الله سبحانه: قل لهم: اعتبروا أمري بواحدة، وهي: أن تقوموا لله، وفي ذاته مجتمعين، فيقول الرجل لصاحبه: هلمّ، فلنتصادق، هل رأينا بهذا الرجل من جنة، أي: جنون، أو جرّبنا عليه كذبًا، ثم ينفرد كل واحد عن صاحبه، فيتفكر، وينظر، فإن في ذلك ما يدل على أن محمدًا صلى الله عليه وسلم صادق، وأنه رسول من عند الله، وأنه ليس بكاذب، ولا ساحر، ولا مجنون، وهو معنى قوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} أي: ما هو إلاّ نذير لكم بين يدي الساعة.
وقيل: إن جملة {مَا بصاحبكم مّن جِنَّةٍ} مستأنفة من جهة الله سبحانه مسوقة للتنبيه على طريقة النظر والتأمل بأن هذا الأمر العظيم، والدعوى الكبيرة لا يعّرض نفسه له إلاّ مجنون لا يبالي بما يقال فيه، وما ينسب إليه من الكذب، وقد علموا: أنه أرجح الناس عقلًا، فوجب: أن يصدّقوه في دعواه، لاسيما مع انضمام المعجزة الواضحة، وإجماعهم على أنه لم يكن ممن يفتري الكذب، ولا قد جرّبوا عليه كذبًا مدّة عمره، وعمرهم.
وقيل: يجوز أن تكون ما في {مَا بصاحبكم} استفهامية، أي: ثم تتفكروا أيّ شيء به من آثار الجنون.
وقيل: المراد بقوله: {إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بواحدة} هي: لا إله إلاّ الله كذا قال مجاهد، والسدّي.
وقيل: القرآن؛ لأنه يجمع المواعظ كلها، والأولى ما ذكرناه أوّلًا.
وقال الزجاج: إن أن في قوله: {أَن تَقُومُواْ} في موضع نصب بمعنى: لأن تقوموا.
وقال السدّي: معنى مثنى وفرادى: منفردًا برأيه، ومشاورًا لغيره.
وقال القتيبي: مناظرًا مع عشيرته، ومفكرًا في نفسه.
وقيل: المثنى عمل النهار، والفرادى عمل الليل، قاله الماوردي.
وما أبرد هذا القول، وأقلّ جدواه.
واختار أبو حاتم، وابن الأنباري الوقف على قوله: {ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ} وعلى هذا تكون جملة: {مَا بصاحبكم مّن جِنَّةٍ} مستأنفة كما قدّمنا.
وقيل: ليس بوقف، لأن المعنى: ثم تتفكروا هل جربتم عليه كذبًا، أو رأيتم منه جنة، أو في أحواله من فساد.
ثم أمر سبحانه أن يخبرهم: أنه لم يكن له غرض في الدنيا، ولا رغبة فيها حتى تنقطع عندهم الشكوك، ويرتفع الريب، فقال: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} أي: ما طلبت منكم من جعل تجعلونه لي مقابل الرسالة، فهو لكم إن سألتكموه، والمراد نفي السؤال بالكلية، كما يقول القائل: ما أملكه في هذا، فقد وهبته لك، يريد أنه لا ملك له فيه أصلًا، ومثل هذه الآية قوله: {قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ المودة في القربى} [الشورى: 23]، وقوله: {مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إلى رَبّهِ سَبِيلًا} [الفرقان: 57].
ثم بين لهم: أن أجره عند الله سبحانه، فقال: {إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الله} أي: ما أجري إلاّ على الله لا على غيره {وَهُوَ على كُلّ شيء شَهِيدٍ} أي: مطلع لا يغيب عنه منه شيء.
{قُلْ إِنَّ رَبّى يَقْذِفُ بالحق} القذف الرمي بالسهم، والحصى، والكلام.
قال الكلبي: يرمي على معنى: يأتي به، وقال مقاتل: يتكلم بالحق، وهو: القرآن، والوحي، أي: يلقيه إلى أنبيائه.
وقال قتادة {بالحق} أي: بالوحي، والمعنى: أنه يبين الحجة، ويظهرها للناس على ألسن رسله، وقيل: يرمي الباطل بالحق، فيدمغه {علام الغيوب} قرأ الجمهور برفع: {علام} على أنه خبر ثانٍ لإنّ، أو خبر مبتدأ محذوف، أو بدل من الضمير في يقذف، أو معطوف على محل اسم إن.
قال الزجاج: الرفع من وجهين على الموضع، لأن الموضع موضع رفع، أو على البدل.
وقرأ زيد بن علي، وعيسى بن عمر، وابن أبي إسحاق بالنصب نعتًا لاسم إنّ، أو بدلًا منه، أو على المدح.